فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{إنا أنزلناه في ليلة القدر}، والضمير عائد على ما دل عليه المعنى، وهو ضمير القرآن.
قال ابن عباس وغيره: أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
وقال الشعبي وغيره: إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر.
وروي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان.
وقيل المعنى: إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفضلها.
ولما كانت السورة من القرآن، جاء الضمير للقرآن تفخيمًا وتحسينًا، فليست ليلة القدر ظرفًا للنزول، بل على نحو قول عمر رضي الله تعالى عنه: لقد خشيت أن ينزل فيّ قرآن.
وقول عائشة: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن.
وقال الزمخشري: عظم من القرآن من إسناد إنزاله إلى مختصًا به، ومن مجيئه بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، وبالرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه. انتهى، وفيه بعض تلخيص.
وسميت ليلة القدر، لأنه تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها وتدفع إلى الملائكة لتمتثله، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.
وقال الزهري: معناه ليلة القدر العظيم والشرف، وعظم الشأن من قولك: رجل له قدر.
وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدرًا عظيمًا لم يكن له قبل، وترده عظيمًا عند الله تعالى.
وقيل: سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر وخطر.
وقيل: لأنه أنزل فيها كتابًا ذا قدر، على رسول ذي قدر، لأمة ذات قدر.
وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذات قدر وخطر.
وقيل: لأنه قدر فيها الرحمة على المؤمنين.
وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله: {ومن قدر عليه رزقه} أي ضيق.
وقد اختلف السلف والخلف في تعيين وقتها اختلافًا متعارضًا جدًا، وبعضهم قال: رفعت، والذي يدل عليه الحديث أنها لم ترفع، وأن العشر الأخير تكون فيه، وأنها في أوتاره، كما قال عليه الصلاة والسلام: «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة» وفي الصحيح: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
{وما أدراك ما ليلة القدر}: تفخيم لشأنها، أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها، ثم بين له ذلك.
قال سفيان بن عيينة: ما كان في القرآن {وما أدراك}، فقد أعلمه، وما قال: وما يدريك، فإنه لم يعلمه.
قيل: وأخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها.
والظاهر أن {ألف شهر} يراد به حقيقة العدد، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام.
والحسن: في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور، والمراد: {خير من ألف شهر} عار من ليلة القدر، وعلى هذا أكثر المفسرين.
وقال أبو العالية: {خير من ألف شهر}: رمضان لا يكون فيها ليلة القدر.
وقيل: المعنى خير من الدهر كله، لأن العرب تذكر الألف في غاية الأشياء كلها، قال تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} يعني جميع الدهر.
وعوتب الحسن بن علي على تسليمه الأمر لمعاوية فقال: إن الله تعالى أرى في المنام نبيه صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على مقبرة نزو القردة، فاهتم لذلك، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وهي خير من مدة ملوك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون هذا القدر من الزمان.
قال القاسم بن الفضل الجذامي: فعددنا ذلك فإذا هي ألف شهر لا تزيد يومًا. وخرج قريبًا من معناه الترمذي وقال: حديث غريب، انتهى.
وقيل: آخر ملوكهم مروان الجعدي في آخر هذا القدر من الزمان، ولا يعارض هذا تملك بني أمية في جزيرة الأندلس مدة غير هذه، لأنهم كانوا في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، بحيث كان في إقليم العرب إذ ذاك ملوك كثيرون غيرهم.
وذكر أيضًا في تخصيص هذه المدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي.
وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة، إن أحيوها، كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد.
وقال أبو بكر الوراق: ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة سنة، فصار ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرًا من ملكهما.
{تنزل الملائكة والروح}: تقدم الخلاف في الروح، أهو جبريل، أم رحمة ينزل بها، أم ملك غيره، أم أشرف الملائكة، أم جند من غيرهم، أم حفظة على غيرهم من الملائكة؟ والتنزل إما إلى الأرض، وإما إلى سماء الدنيا.
{بإذن ربهم}: متعلق بتنزل {من كل أمر}: متعلق بتنزل ومن للسبب، أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل.
{وسلام}: مستأنف خبر للمبتدأ الذي هو هي، أي هي سلام إلى أول يومها، قاله أبو العالية ونافع المقري والفراء، وهذا على قول من قال: إن تنزلهم التقدير: الأمور لهم.
وقال أبو حاتم: من بمعنى الباء، أي بكل أمر؛ وابن عباس وعكرمة والكلبي: من كل امرئ، أي من أجل كل إنسان.
وقيل: يراد بكل امرئ الملائكة، أي من كل ملك تحية على المؤمنين العاملين بالعبادة.
وأنكر هذا القول أبو حاتم.
{سلام هي}: أي هي سلام، جعلها سلامًا لكثرة السلام فيها.
قيل: لا يلقون مؤمنًا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة.
وقال منصور والشعبي: سلام بمعنى التحية، أي تسلم الملائكة على المؤمنين.
ومن قال: تنزلهم ليس لتقدير الأمور في تلك السنة، جعل الكلام تامًا عند قوله: {بإذن ربهم}.
وقال: {من كل أمر} متعلق بقوله: {سلام هي}، أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه هي سلام.
وقال مجاهد: لا يصيب أحدا فيها داء.
وقال صاحب اللوامح: وقيل معناه هي سلام من كل أمر، وأمري سالمة أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون سلام بهذه اللفظة الظاهرة التي هي المصدر عاملًا فيما قبله لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر.
كما أن الصلة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول، انتهى.
وعن ابن عباس: تم الكلام عند قوله: {سلام}، ولفظة {هي} إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات هذه السورة، انتهى.
ولا يصح مثل هذا عن ابن عباس، وإنما هذا من باب اللغز المنزه عنه كلام الله تعالى.
وقرأ الجمهور: {مطلع} بفتح اللام؛ وأبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو: بخلاف عنه بكسرها، فقيل: هما مصدران في لغة بني تميم.
وقيل: المصدر بالفتح، وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر (1)}
التفسير:
الضمير في {أنا أنزلناه} للقرآن إما لأن القرآن كله في حكم سورة واحدة وإما لشهرته ومن نباهة شأنه كأنه مستغن عن التصريح بذكره، وقد عظم القرآن في الآية من وجوه أخر هي إسناد إنزاله إلى نفسه دون غيره كجبرائيل مثلًا، وصيغة الجمع الدالة على عظم رتبة المنزل، إذهو واحد في نفسه نقلًا وعقلًا والرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه وهو ليلة القدر. وههنا مسائل الأولى: كيف حكم بأنه أنزل في هذه الليلة مع أنه أنزل نجومًا في نيف وعشرين سنة؟ والجواب كما مر في البقرة في قوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] أي أنزل فيها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها إلى الأرض نجومًا، ووجه حسن المجاز أنه إذا أنزل إلى السماء الدنيا فقد شارف النزول إلى الأرض فيكون من فوائد التشويق كما قيل:
وأبرح ما يكون الشوق يومًا ** إذا دنت الخيام من الخيام

وقال الشعبي: ابتدئ بإنزاله في هذه الليلة لأن المبعث كان في رمضان.
وقيل: أراد إنا أنزلنا القرآن يعني هذه السورة في فضل ليلة القدر والقدر بمعنى التقدير.
قال عطاء عن ابن عباس: إن الله تعالى قدر كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية نظيره قوله: {فيما يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] في أحد الوجوه والمراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة فإن المقادير من الأزل إلى الأبد ثابتة في اللوح المحفوظ، وهذا قول أكثر العلماء. ونقل عن الزهري أنه قال: ليلة القدر يعني ليلة الشرف والعظمة من قولهم: (لفلان قدر عند فلان) أي منزلة وخطر، ويؤيد هذا التأويل قوله: {ليلة القدر خير من ألف شهر} ثم هذا الشرف ما أن يرجع إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعة صار ذا قدر وشرف. وإما أن يرجع إلى الفعل لأن الطاعة فيها أكثر ثوابًا وقبولًا.
يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فرأى نائمًا فقال: يا علي نبهه ليتوضأ فأيقظه على ثم قال: يا رسول الله إنك سابق إلى الخيرات فلم نبهته بنفسك؟ فقال: لأن رده على كفر ورده عليك ليس بكفر ففعلت ذلك لتخف جنايته لورد. فإذا كان هذا رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم فقس عليه رحمة الله تعالى عليه وكأنه سبحانه يقول: إذا عرفت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ورفع العقاب أولى من جلب الثواب، فالإشفاق أن لا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئًا متعمدًا. وأيضًا إذا اجتهد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة باهى الله تعالى ملائكته ويقول: كنتم تقولون فيهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فهذا جدهم في الأمر المظنون، فكيف لو جعلتها معلومة لهم فهنالك يظهر سر قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] الخامسة معنى كونها خيرًا من ألف شهر أن العبادة فيها خير من ألف شهر ليس فيها هذه الليلة، وذلك لما فيها من الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية.
وقال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي، فعل ذلك ألف شهر، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من ذلك فأنزل الله تعالى السورة فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي ويؤيده ما روي عن مالك ابن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس فاستقصر أعمار أمته وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم، فأعطاه الله ليلة هي خير من ألف شهر لسائر الأمم.
وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يستحق اسم العابد حتى يعبد الله ألف شهر. وذكر القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنه: يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعته. يعني معاوية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري في منامه بني أمية يطؤن منبره واحدًا بعد واحد وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى: {إنا أنزلناه} إلى قوله: {خير من ألف شهر} يعني ملك بني أمية.
قال القاسم: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص، وزيف بأن أيامهم كانت مذمومة فكيف تذكر في مقام التعظيم؟ وأجيب بأنها كانت أيامًا عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يمتنع أن يقول الله تعالى أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك الأيام في بابها.
وعن كعب: إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي، فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، ومقام جبرائيل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين، ينزلون مع جبرائيل ليلة القدر فلا يبقى بقعة في الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبرائيل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم، وعلامة ذلك أن يقشعر جلده وبرق قلبه وتدمع عيناه، من قال فيها لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر له بواحدة ونجاه من النار بواحد وأدخله الجنة بواحدة، وأول من يصعد جبرائيل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ثم يدعو ملكًا ملكًا فيصعد الكل فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل فيقيم جبرائيل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتسابًا، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة حتى يقولوا: ما فعل فلان كيف وجدتموه؟ فيقولون: وجدناه عام أول مبتدعًا وفي هذا العام متعبدًا وفي بعضهم بالعكس، فيدعون للأول دون الآخر. ووجدنا فلانًا تاليًا وفلانًا راكعًا وفلانًا ساجدًا، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا إلى السماء الثانية، وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة المنتهى، فتقول لهم السدرة: يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقًا وإني أحب من أحب الله. وتقول الجنة: عجلهم اللهم إلى، والملائكة وأهل السدرة يقولون: آمين. وإنما نزول الملائكة على فضيلة هذه الليلة لأن الجماعة كلما كانت أكثر كان نزول الرحمة أوفر والطاعة في حضور الملائكة الذين هم العلماء بالله والعباد له تكون أدخل في الإخلاص وأجلب لأسباب القبول. أما الروح فالأظهر أنه جبرائيل، خص بالذكر لزيادة شرفه.
وقيل: ملك يقوم صفًا والملائكة كلهم صفًا، وقيل: طائفة من الملائكة لا يراهم غيرهم إلا في هذه الليلة.
وقيل: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ولعلهم خدم أهل الجنة.
وقيل: عيسى عليه السلام ينزل في جماعة من الملائكة ليطالع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: القرآن {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52] وقيل: الرحمة.
وقيل: هم كرام الكتابين. يروى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلفين مفصلة فإذا وصلوا إلى معاصيهم أرخى الستر فلا يرونها فحينئذ يقولون: سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح، ويشتاقون إلى لقائهم فينزلون لذلك. ومن فوائد نزولهم أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروها في سكان السموات ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين فيقولون: تعالوا نسمع صوتًا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا. اهـ.